في مفهوم "الدّولة المدنيّة"

الاثنين 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011
بقلم: رجاء بن سلامة  
الأوان

مفهوم وتركيب لغويّ ظهر حديثا في البلدان العربيّة وباللّغة العربيّة، وهي على الأرجح تنفرد به في اللّغة السّياسيّة المتداولة حاليّا. فصفة المدنيّة تنسب غالبا إلى المجتمع لتعني الفضاء المتوسّط بين الأسرة والدّولة، أي الجسد الاجتماعيّ المنظّم على نحو إراديّ وبمعزل عن الطّبقة السياسيّة. وتنسب إلى المواطن لتعني المواطن الذي ينهض بحقوقه وواجباته من تلقاء نفسه وبكلّ حرّيّة. ويضيفها الفيلسوف الفرنسيّ أتيان باليبار إلى السّياسة politique de la civilité ليعني بها "سياسة شروط إمكان السّياسة"، وهي في أساسها "مقاومة للعنف الذي يدمّر إمكان السّياسة نفسه".
ومن الطّريف أن يعني التّركيب في اللّغة الفرنسيّة مفهوما إداريّا نعبّر عنه بـ"الحالة المدنيّة" état civil . وهو بالإنكليزيّة Civil status. والحالة المدنيّة هي وضعيّة الفرد في الأسرة والمجتمع من ولادته إلى زواجه إلى موته، كما توثّقها الدّولة، وتثبّتها في سجلّ ينسب في الإنكليزيّة إلى الحياة" : Vital statistics. إنّه مفهوم يرتبط بالفرد باعتباره قد خرج من حالة الطّبيعة، وخضع إلى سلطة الدّولة، فهي التي تسند الهويّة وتسجلّ وتُحصي.
وقد وجدنا في موسوعة ويكبيديا العربيّة مقالا مخصّصا للدّولة المدنيّة كتب بين جويلية/يوليو 2010 وسبتمبر 2011، وهو ما يؤكّد حداثة المفهوم، أو على الأقلّ حداثة تداوله على السّاحة السّياسيّة.


يعرّف هذا المقال الدّولة المدنيّة كالتّالي : "الدولة المدنية هي دولة تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والفكر." ثمّ يقدّم مجموعة من الشّروط التي لا تتحقّق صفة الدّولة المدنيّة إلاّ بها، منها "مبدأ المواطنة والذي يعني أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات"، ومنها عدم "خلط الدين بالسياسة". ويحرص كتّاب المقال على إضافة هذا المعطى إلى عنصر عدم الخلط بين الدّين والسّياسة : "كما أنها-أي الدّولة المدنيّة- لا تعادي الدين أو ترفضه. فرغم أن الدين يظل في الدولة المدنية عاملا في بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. حيث أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يعتبر من أهم العوامل التي تحول الدين إلى موضوع خلافي وجدلي وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة."
والأسئلة التي نطرحها حول هذا المفهوم الجديد والآفاق التي يفتحها هي التّالية :
ما علاقة مفهوم "الدّولة المدنيّة" بتراث الفكر السّياسيّ الغربيّ، وبصفة "المدنيّة" و"المدينة" التي تشترك مع "الحضارة" في نفس الجذر الهندوأوربيّ المشترك civis؟ هل هي الدّولة التي تصبح فيها صفة المدنيّ ممكنة؟ وما علاقة هذا المفهوم بالتّصوّرات السّياسيّة النّابعة من الوضعيّات العربيّة الحديثة؟ هل ظهر ليدلّ على توق جديد إلى التّحرّر من تنظيمات سياسيّة يحكمها غير "المدنيّين"، من عسكر ورجال دين؟
وما علاقة الدّولة المدنيّة بالدّولة العلمانيّة؟ أليست حسب هذا المقال الذي عرضناه صيغة من صيغ للدّولة العلمانيّة، بما أنّ الدّولة المدنيّة لا يجوز فيها "الخلط بين الدّين والسّياسة"، لكنّها لا تقصي الدّين من الفضاء العامّ بما أنّه "يظل في الدولة المدنية عاملا في بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم"؟ وهل يتعلّق الأمر بعلمانيّة "معدّلة" تختلف عن "اللاّئكيّة" الفرنسيّة؟
وما علاقة "الحالة المدنيّة" بـ"الدّولة المدنيّة"، علما وأنّ سجلّ الحالة المدنيّة كان بأيدي الكنيسة وتحوّل في فرنسا إلى السّلطات البلديّة إثر الثّورة الفرنسيّة؟ هل هو حصيلة مسارات تفرّد الفرد بحالة قانونيّة تميّزه، وحصيلة تعويض الدّولة للهيئات القبليّة والطّائفيّة في وظيفة سياسة الأجساد والنّفوس؟ وما العلاقة بين "المدنيّة" و"الحضريّة"؟ هل الدّولة المدنيّة هي تلك التي تبتعد عن صفات البداوة، وتصبح "حضريّة" حضاريّة؟ وكيف ولماذا تربط اللغّة العربيّة بين صفتي "الحضريّ" و"الحضاريّ"؟
وبالنّظر إلى أنّ هذا المفهوم أصبح يدلّ على صفة للدّولة التي يطالب بها إسلاميّون يقبلون اللّعبة الدّيمقراطيّة، ويقبلون الدّخول في انتخابات، يمكن أن نطرح الأسئلة التّالية :
هل هذا المفهوم نتاج لتحوّلات في فكر الإسلام السّياسيّ أم نتاج لعمليّة عسيرة تتمثّل في بناء المشترك السّياسيّ؟ أم هو حصيلة عمليّة ترجمة للعلمانيّة إلى عبارة أخرى؟ وبماذا تؤثّث سائر الأطراف الفاعلة سياسيّا هذا المفهوم؟ وهل تختلف الخطابات عن "الدّولة المدنيّة" بعد هذا النّوع من الاتّفاق الضّمنيّ حول الحدّ الأدنى المشترك؟
وما الذي حصل لمفهوم "العلمانيّة" في ديارنا؟ هل أصبح غير محتمل، بعد أن تمّت شيطنته وتمّت عمليّة إقصائه ورفضه؟ هل هي عودة المكبوت العلمانيّ؟ مع العلم بأنّ المكبوت هو ما نرفض التّفكير فيه؟ أم هل هو قبول بالعلمانيّة بعد إخضاعها لمتطلّبات موجة التّديّن والمحافظة الأخلاقيّة التي تكتسح العالم، والعالم العربيّ أساسا؟
يعرف قرّاء الأوان وكتّابه الكرام أنّ الأوان موقع دافع وسيدافع عن القيم العلمانيّة، وعن فصل الدّين عن السّياسة، أو على الأقلّ عن الدّولة. لكنّنا أمام التّحدّيات الرّاهنة، نودّ فتح باب الحوار والتّفكير لكلّ الهوامش، ونحاول أن نفتح أعيننا على كلّ التّحوّلات التي تحكم الأفكار والوقائع، في هذا المنعرج التّاريخيّ الهامّ الذي تعيشه مجتمعاتنا، بعد ثورة 14 جانفي/يناير بتونس، وبعد كلّ الثّورات والانتفاضات التي عقبتها.
نحن في انتظار مساهماتكم، سواء بمقالات الرّأي، أم بالأبحاث النّظريّة أم التّحليليّة أم الميدانيّة.