أسئلة أطرحها على من يعتبرون النّقاب "حرّيّة

25 كانون الأول (ديسمبر) 2011
رجاء بن سلامة
الأوان


هناك نوع جديد من الرّقابة على الفكر، يتمثّل في إقصاء بعض القضايا من دائرة الحوار على أنّها ترف وعلى أنّ الفقر والبطالة وحدهما من الأولويّات. وما أراه هو أنّ الفكر لا حدود له، وأنّ مظاهر البؤس التي نريد معالجتها قبل ثورة 14 جانفي/يناير وبعدها لا تقتصر على الفقر والتّهميش الاقتصاديّ، وإن كان علاج المسألة الاقتصاديّة هو أوّل ما يجب أن تنكبّ عليها الحكومة التّونسيّة القادمة.
لم يكن النّقاب مطلبا من مطالب الثّورة، هذا ممّا لا شكّ فيه، فشعار الكثير من المتظاهرين، كما قيل، لم يكن "النّقاب استحقاق يا عصابة الكفّار"، بل كان : "التّشغيل استحقاق يا عصابة السّرّاق". لكن ها هو النّقاب يفرض علينا نفسه بعد الثّورة، لا من خلال نقاش لاهوتيّ حول جنس الملائكة، بل عبر أزمات حقيقيّة عاشتها وتعيشها بعض المؤسّسات الجامعيّة بتونس، وربّما عاشتها وستعيشها أقطار عربيّة أخرى ليس النّقاب فيها لباسا تفرضه الدّولة وتفرضه التّقاليد.
لن أخوض في الطّرح الدّينيّ لمسألة النّقاب، لأنّ تأويل النّصّ القرآنيّ محل اختلاف دائم. وحتّى إن خلا النّصّ القرآنيّ من أيّ ذكر للنّقاب، فإنّ المدافعين عن النّقاب يؤوّلون كما يريدون نصوص القرآن والحديث لإثبات وجوبه. لكنّني سأحاول التّفكير في الجانب الحقوقيّ والسّياسيّ الذي يجعل أنصاره ويجعل بعض النّاشطين الحقوقيّين أيضا يدافعون عنه باعتباره من الحرّيّات الخاصّة التي تجب حمايتها.

1-كيف يتحوّل اعتبار المرأة عورة إلى موضوع مطالبة بالحقّ؟
ظهرت مؤخّرا فتوى قد تبدو للقرّاء الكرام صادمة وغير لائقة مفادها أنّ "وجه المرأة كفرجها". إنّها فتوى أبي اسحاق الحويني، أحد أشهر شيوخ السلفية في مصر. فهذه الجملة هي مقدّمته التي تفضي إلى القول بوجوب النّقاب. فكيف تتحوّل المرأة، لدى الإنسان العاقل، إلى فرج كبير أو مجموعة من الفروج؟

أذهلتني هذه الفتوى الصّادرة مؤخّرا، وبقدرما وجدتها منطقيّة بمعنى من المعاني، فاعتبار الوجه عورة هو الذي يؤدّي إلى إخفائه، وجدتها هاذية جنونيّة، بل باعثة على القلق. لا تكتفي الفتوى باعتبار الوجه "عورة" بل تساوي بين الوجه والعضو الجنسيّ لدى المرأة. كيف يمكن للعورة أن تتمطّط وتمتدّ إلى كامل جسم الكائن الأنثويّ؟ أليست هذه الفتوى وتبعاتها دليلا على انحسار البعد الرّمزيّ لدى الإنسان بحيث يكتسح الجنس الأجساد ويكتسح الحياة العامّة؟ البعد الرّمزيّ هو الذي يجعل الإنسان يستبطن القانون باعتباره حدّا من المتعة، ويجعل الموانع الحائلة دون ممارسة الجنس في غنى عن الحواجز المادّيّة من نقاب وغيره. فالمرأة لا يمكن أن ينظر إليها الرّجل على أنّها عورة إلاّ إذا لم يخضع إلى الخصاء الرّمزيّ الذي يحدّ من دوافعه ويخضعها إلى قواعد الحياة الاجتماعيّة.

ثقافة النّقاب هذه تدلّ في الظّاهر على التّقوى والورع، لكنّها في عمقها تدلّ على فشل الثّقافة والتّنشئة الاجتماعيّة في تهذيب غرائز هؤلاء، بحيث يلجؤون إلى التّديّن المفرط لدرء هذا الفشل. إنّها ميكانيزمات معروفة في التّحليل النّفسيّ، تتّصل بسجلاّت العصاب الوسواسيّ المفرط والذّهان، وما بينهما ممّا يسمّى الحالات البينيّة. ولقد مارست التّحليل النّفسيّ في مصر، واستمعت إلى منقّبات لم يفرض عليهنّ النّقاب، أو أتيح لي التّعرّف على تجارب بعضهنّ. هؤلاء النّساء أردن النّقاب لأسباب نفسيّة تتعلّق بحاجتهنّ إلى حاجز مادّيّ يفصلهنّ عن الآخرين فصلا يكاد يكون تامّا، لفشل في استبطان صورة ملائمة للجسد، أو لفشل في القبول بالأنوثة وبالإخصاء الرّمزيّ الذي يتبع العمليّة الأوديبيّة، أو لاستبطان أنا أعلى قاس في أسر فرضت على أفرادها نمطا سلفيّا في الحياة، لا سيّما أسر المهاجرين المصريّين إلى المملكة العربيّة السّعوديّة. وبعضهنّ يلجأن إلى النّقاب هربا من النّساء أنفسهنّ، أي من نزعات مثليّة مترسّخة لديهنّ. لكنّني لا أنفي وجود حالات أخرى لا يكون فيها النّقاب حلاّ دينيّا لمشاكل نفسيّة، بل بكون أداة تستعملها المنقّبة للتّلاعب بالرّقابة المفروضة عليهنّ من أسرتها أو زوجها.
 المهمّ أنّ هذه الظّاهرة، ظاهرة النّقاب في حدّ ذاتها كان يمكن أن تبقى في دائرة فرديّة، وأن تنحسر في مجموعة صغيرة من الفئات التي تختار نوعا من التّهميش الإراديّ لولا تسيّسها، وتحوّلها بعد ثورة 14 جانفي إلى موضوع مطالبة بالحقوق يتّخذ أحيانا أشكالا عنفيّة، وتحوّلها إلى موضوع دفاع، والمشكل انّه دفاع باسم حقوق الإنسان..

وهكذا، يتسنّى لي أن أعيد صياغة السّؤال الأوّل كالتّالي : كيف تتحوّل علامة مرضيّة إلى موضوع مطالبة بالحقّ؟

2-أليس النّقاب حالة من حالات التّعارض بين الحرّيّة والكرامة؟
أوّل إشكال يمكن أن نطرحه هو التّوفيق بين الحرّيّة والكرامة. ولنتذكّر مفارقة لعبة "رمي الأقزام" التي كانت محلّ جدل قانونيّ وفلسفيّ في أوروبّا وأمريكا. رمي الأقزام هي مسابقة أمريكيّة أو أستراليّة الأصل تتمثّل في القذف بذات بشريّة قصيرة القامة-قزم- إلى أبعد مسافة ممكنة. المشكل الذي طرح هو أنّ "القزم" محترف ويعتبر قبوله للّعبة من باب حرّيّته. في حين تعتبر السّلطات العامّة قذفه وكأنّه كرة إهانة له ومسّا بكرامته كذات بشريّة. هذه القضيّة أسالت الحبر طيلة التّسعينات، خاصّة في فرنسا، ولكنّ الأمر آل إلى منعها في فرنسا والكندا والولايات المتّحدة، وصدر فيها سنة 2002 قرار من لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتّحدة يقضي باعتبار هذه اللّعبة منافية للكرامة البشريّة.

لا أريد أن يفهم من كلامي أنّني أطالب بمنع ارتداء النّقاب في الأماكن العامّة على غرار ما قامت به بعض الدّول الأوروبّيّة، لكنّني أدعو إلى التّريّث في ربط النّقاب بالحرّيّة. وبالنّظر إلى ما ذكرته سابقا من أنّ النّقاب يحوّل جسد المرأة كلّه إلى عورة، ويفرض تصوّرا للمرأة منافيا لكرامتها. أذكّر بأنّ الكرامة هي ما يجعل الإنسان غاية لا وسيلة، وما يجعله أغلى من كلّ شيء. فكيف تعدّ المنقّبة ذات كرامة، وهي تعتبر نفسها وسيلة لإثبات شرف الرّجال من حولها، وتعتبر جسدها عورة، والعورة هي ما يجب إخفاؤه من فتحات الجسد؟ وكيف تعدّ ذات كرامة وهي بلا هويّة تميّزها عن بقيّة الإناث؟

قد يقال : هي اختارت أن تكون كذا. ولكنّ الإنسان قد يختار لنفسه عملا مهينا كما في حالة "رمي الأقزام" أو يختار الانتحار مثلا، أو الإدمان على المخدّرات، وعندها، ألا يجب على السّلطات العامّة أن تحميه من نفسه ومن دوافع الموت المنفلتة في نفسه والمدمّرة لجسده ولحضوره الاجتماعيّ؟ ولماذا تحميه من نفسه : لأنّ السّلطات العامّة تفترض أنّه ذو قيمة، وانّ كيانه وبقاء كيانه أغلى من كلّ شيء.
ولكي نعمّق مفهوم الكرامة الإنسانيّة، في هذا الموضوع بالذّات، يمكن أن نعود إلى ما تخفيه اللّغة العربيّة وتكشفه في الوقت نفسه من جواهر فكريّة. فمن بين التّعريفات الاشتقاقيّة للإنسان هو الظّهور، خلافا للكائنات الماورائيّة الأخرى التي تسمّى الجنّ. الإنسان يظهر ولا يخفى، وظهوره هو وجوده أو جزء من وجوده ومنزلته. ولذلك فإنّ المرأة المنقّبة تخالف هذه المنزلة البشريّة، وتختار أو يفرض عليها نمط من الوجود الشّبحيّ الباعث على القلق : إنّها تكون حاضرة غائبة، تماما كالأشباح.

3-ألا يتعارض النّقاب مع المؤسّسات؟
في النّقاب رفض للتّواصل مع الآخرين تواصلا يمرّ عبر الوجه الذي لا يميّز الإنسان عن الآخر فحسب، بل يعبّر أيضا بالنّظرة والقسمات. في حين تحتاج المؤسّسات إلى تواصل وتحدّد للهويّة، وتحتاج إلى ثقة بين الرّجال والنّساء.
وإذا أضفنا إلى تعريف الإنسان تجربة "الأنس" والألفة والتّآلف، بدا لنا في النّقاب من وحشة لاإنسانيّة. إنّه نوع من رفض الآخر والاعتداء عليه بالنّظر : أنا أراك وأنت لن تراني. ولأنّك لا تراني، فلن تعرفني، وبإمكاني أن أقول لك أو أفعل بك ما أشاء. هذا هو العنف المبطّن الموجود في سلوك المنقّبة.

فكيف نحوّل رفض التّعايش والتّواصل إلى حرّيّة؟ وكيف نقبل بالنّزعات الفرديّة القائمة على النّفور من الآخرين في المؤسّسات التي يجب أن يتجاوز فيها الفرد جزءا من أنانيّته لكي ينسجم مع الآخرين؟

4-هل توجد حرّيّة مطلقة في السّلوك؟
هناك مغالطة في اعتبار النّقاب لباسا، فالوجه لا لباس له، كما سنبيّنه في مقال لاحق. لكنّنا لو فرضنا أنّ النّقاب لباس، وأنّ الدّفاع عنه من باب الدّفاع عن حرّيّة اللّباس، فهل يمكن أن يقبل المدافعون عنه مطالب العراة مثلا، لو فرضنا أنّ جمعيّة للعراة طالبت بنفس الحقّ، حرّيّة اللّباس، وفي قضيّة الحال حرّيّة عدم اللّباس في بلادنا؟ ولو جاء إلى كلّيّاتنا للدّراسة طلبة يرتدون مايوهات سباحة مثلا، فهل ندافع عن حقّهم في الدّراسة بهذه الهيئة؟ هل توجد حرّيّة مطلقة في السّلوك؟ لاسيّما السّلوك داخل المؤسّسات؟

وختاما، أليس النّقاب حالة من حالات التّلاعب الذي يوفّره وجود مرجعيّتين مختلفتين : دينيّة وحقوقيّة، بحيث أنّ أنصاره يعودون إلى هذه المرجعيّة أو تلك لجني ثمار الاثنين؟ فالمدافعون عنه يلجؤون إلى حج ذات طبيعة دينيّة لإقناع النّساء بارتدائه، ولترسيخ الشّعور بالذّنب لدى الضّعيفات منهنّ حتّى يصبح "جزءا من كيانهنّ". وعندما يدافعون عنه في الفضاء العامّ، لا يجدون الحج الدّينيّة الكافية للإقناع بوجوبه، فيلجؤون إلى مفاهيم الحرّيّة الشّخصيّة.

هذا التّلاعب حالة من حالات التعامل الانتقائيّ مع حقوق الإنسان، يذكّرني بحيل الفقهاء. فالكثير ممّن يدافعون اليوم عن النّقاب، وأخصّ بالذّكر منهم بعض المحامين، هم الذين رفعوا قضيّة ضدّ قناة بسبب عرضها لشريط سينمائيّ. إنّهم يدافعون عن مطلق الحرّيّة في السّلوك، عندما يتعلّق الأمر بالنّقاب في المؤسّسات، ويقيّدون باسم المقدّسات حرّيّة التّعبير والإبداع التي لا تقبل من ألوان التّقييد إلاّ ما يحمي الأحياء من الثّلب والتحريض على القتل.
حرّيّة النّقاب لدى هؤلاء مقدّسة، وحرّيّة المبدعين والإعلاميّين مسّ بالمقدّسات.

لكنّنا، في مقابل هذا التّلاعب بالمرجعيّات، ألا نجد تعاملا شكليّا مع حقوق الإنسان لدى الهيئات والمنظّمات الحقوقيّة نفسها؟ فهي تقوم بمهمّتها النّبيلة غالبا دون أن تقف على حالات التّعارض بين القيم، كما في حالة "لعبة رمي الأقزام" التي أشرنا إليها؟
إنّ حقوق الإنسان تعاني حسب رأيي من موقفين : أحدهما التوظيف الانتقائيّ لمن لا يؤمنون بها إلاّ بعد إخضاعها ضمنيّا إلى مرجعيّة دينيّة، وثانيهما الاستخدام الشّكلانيّ لمن يؤمن بها بصفة مفرطة في التّجريد والإطلاق. وفي كلتا الحالتين تتّخذ حقوق الإنسان وسيلة للدّفاع عمّا يتعارض مع حقوق الإنسان، ويتمّ إنتاج حكمة ملتبسة للدّفاع عن حرّيّة مشبوهة.

إنّها حكمة الدّفاع عن حرّيّة العبد في اختيار قيده، وحرّيّة المهين نفسه في اختيار أسلوب مهانته، وحرّيّة الخائف المهووس في اختيار هوسه ومأسسته، وفرضه على المؤسّسات.