قصب هياكلنا وعروشنا قصب

بشار طربيه
28/12/2011
موقع الجولان

منذ انطلاقة ثورة الكرامة في سوريا والتوتر يسود ساحة الجولان. وقد شهدت الأسابيع الأخيرة تصعيدا وصل إلى تعدي البعثيون وحلفائهم من طائفيين وغيرهم على مسيرة داعمة للثورة السورية قبل بضعة أيام. ومقابل هذا التصعيد إجتمع ممثلون للهيئة الدينية من كل القرى في مقام اليعفوري للتباحث في هذا الأمر واختلفوا بالرأي مما ادى الى انسحاب مجموعة وبقاء أُخرى وصدور بيانين مستقلين كل منهما يدعي أنه صادر باسم الهيئة الدينية في الجولان.
وليس جديدا أن تظهر بين المتدينين مواقف سياسية متباينة. فعلى الرغم من أن التدين هو ما يجمعهم، لكنهم أيضا أفراد من المجتمع ولكل منهم موقفه الخاص من السياسية والمجتمع تشكل عبر تجربته الحياتية قبل وبعد اختيار التدين. لذلك، ليس مفاجئا أن نجد رجلا يرتدي زي الدين يدعم الثورة السورية وآخر يدعم النظام السوري. لكن، مفاجئ للجميع أن نرى رجلا بزي الدين يرغي ويزبد ويصف داعمي الثورة بأنهم "أنجاس وخنازير، هؤلاء ليسو بشراً" وبأنهم "خونة، عملاء، يتلقون المال، هؤلاء حقراء وسخين، هؤلاء خنازير ليس لهم دين ولا رب ولا كرامة". الجديد هنا هو إحجام الهيئة الدينية عن أهم دور تاريخي مارسته في المجتمع وهو أن تكون الملجأ الأخير للمجتمع في ضمان وفرض أن لا يخرج أي خلاف مجتمعي أو بين أفراد عن شروط التهذيب والسلمية والتعايش مع الآخر ومعاقبة كل من ينتهك هذه القاعدة. وحتى الماضي القريب، لم تتردد المؤسسة الدينية ليس فقط عن فرض الحرم الديني والاجتماعي على من يمارس العنف، بل وقامت أحيانا بإبعاد هكذا أفراد من الجولان لفترات إعتبرتها تتلائم وحجم الفعل المهين المرتكب. وأن يخرج رجل دين بتصريحات تكفيرية وتخوينية كهذه دون مساءلة أو رد من الهيئة الدينية يشكل سابقة لا بد من تسجيلها للتاريخ وللأجيال القادمة التي قد تتساءل عن أي تدهور إضافي قد تؤول إليه أحوالنا وتحاول فهم هذه المرحلة الحزينة من تاريخ الجولان.
البيان الأول الذي نشره موقع جولان تايمز (أو قناة الدنيا الجولانية) يستنكر أي شكل من الدعم لثورة الكرامة ويرسل أصدق التحيات وأحر القبلات لبشار الأسد ونظامه، وبالتالي لا حاجة للتحاور مع كاتبيه فقد جهروا على الملأ أنهم أعادوا صياغة دورهم الاجتماعي من الوعض الديني الى الفرض الحزبي السياسي فأصبحوا بعثيين أولا ورجال دين آخرا، وأن "الهيئة الدينية في الجولان" التي يحلمون بقيادتها لا تتجاوز أن تكون فرعا حزبيا جديدا للبعث في محافظة القنيطرة.
أما البيان الثاني فهو يدعو الجميع للتحلي "بروح المسؤولية وضبط النفس، في هذه المرحلة العصيبة، حفاظاً على وحدة المجتمع وسلامة أفراده" ويناشد "جميع الفئات الامتناع عن تنظيم أي فعاليات أو مسيرات أو مظاهرات واعتصامات، وذلك منعاً للاحتقان ودرءً لأي صدام محتمل" وينتهي بصيغة أشبه بصيغة الأمر بأنه ما عدى إحياء ذكرى الاضراب الكبير وذكرى الجلاء وفي "حال حدوث أي طارئ يستوجب منا موقفاً وطنياً يكون فقط بالتنسيق معها". مع هذا البيان نتحاور.
موقف البيان الثاني يبدو لأول وهلة حياديا، وهو بدون أدنى شك صادق بنواياه. لكن، باعتبار تاريخ النشاط السياسي في الجولان منذ الثمانينات والذي كانت الهيئة الدينية جزء لا يتجزأ منه، وباعتبار الانقسام غير الرسمي أو المعلن الذي حصل في صفوفها الآن، فإن الانصياع لمطالب البيان الثاني سيفرز نتائج أبعد ما تكون عن الحيادية لأسباب كثيرة.
ففي السنوات الأخيرة، سمحت المؤسسة الدينية (بإرادتها أو مرغمة، وربما للسببين معا) للبعث بالسطو على بيت الشعب في بقعاثا ومركز الشام في مجدل شمس ومثيلاتها في باقي القرى والتي بنيت من أموال الوقف التابعة لكل الناس لتصبح مقرات لإجتماعات ومهرجانات وفعاليات مؤيدي البعث وبشار الأسد. وتحولت هذه الأبنية التابعة لكل الجولانيين منذ بدء ثورة الكرامة إلى مواقع تصدر منها فعاليات الدعاية للنظام السوري وحفلات الدبكة والرقص على دماء شعبنا المراقة.
ولم يهتز جفن الهيئة الدينية أو يصدر عنها أي احتجاج، ولو لمرة واحدة، تجاه هذا السطو الفئوي على ما هو ملك عام للناس، لكن جفنها ارتجف دائما أمام أي نشاط لدعم الثورة السورية في الشوارع والحيز العام التي ليست تحت إدارتها وإشرافها أصلا. بكلمات أُخرى، وحتى هذه الساعة، مالت السلطة الدينية بنهجها وبمواقفها المعلنة كتابة لمحاباة البعث وداعمي النظام السوري سياسيا.

أما بالنسبة لتحديدها ذكرى الإضراب الكبير ويوم الجلاء على أنها الفعاليات الوطنية الوحيدة المسموح بها، فإنه يثير أسئلة دون أن يقدم أجوبة شافية. المؤسسة الدينية لم تفعل في الماضي ولن تستطيع فعليا أن تحول دون إقامة البعثيين وحلفائهم لمهرجاناتهم الخطابية التقزيمية لهذه المناسبات، وادعاء تمثيل الجولان بكل أطيافه بما فيها الدينية، وتحويل هاتين المناسبتين المقدستين وطنيا بالنسبة للجميع إلى مهرجانات أشعار وخطابات بلاطية تتغنى بأمجاد الأسد وعائلته. المهم هنا هو أن ذكرى الإضراب الكبير ويوم الجلاء ستستعمل في الأشهر القادمة كمطايا يركبها البعثيون في دفاعهم المستميت عن نظام الأسد المتهاوي. والسؤال الحقيقي هو هل ستقاطع المؤسسة الدينية هذه المهازل أم ستنصاع للمشاركة فيها كما فعلت لأكثر من عقدين؟ وفي حال مقاطعتها لهكذا احتفالات، وقيام البعثيون بالإدعاء التمثلي للجولان، هل ستعاقبهم السلطة الدينية على تجاوزهم للمجتمع؟ وإذا كان الجواب بالنفي لأي من السؤالين السابقين، كيف يمكن أن يقرأ البيان الأخير على أنه تعبير عن موقف حيادي؟ بكلمات أخرى، فإن الدعوة للامتناع "عن تنظيم أي فعاليات أو مسيرات أو مظاهرات واعتصامات" كوسيلة لتفادي الحديث عن الأحداث في سوريا واتخاذ موقف منها هي دعوة غير مجدية نظريا ولا قابلة للتطبيق عمليا لأن طريقة إحياء ذكرى الإضراب والجلاء هي جزء من المشكلة. والتزام التيار الداعم للثورة بمطالب البيان يعني عمليا إفراغ الساحة للبعثيين كي يصولوا ويجولوا ويهيمنوا زورا على الصفة التمثيلية للمجتمع بما فيه الهيئة الدينية.

أخيرا، فإن كل البيانات التي صدرت حتى الآن أدانت التيار الداعم للثورة ليس لممارسته عنفا أو خروجه عن مألوف وإنما خضوعا للضغوطات والتشبيح السياسي الذي يمارسه التيار الداعم للنظام السوري. بالمجمل إذا، ليس لدى السلطة الدينية أي مأخذ أخلاقي أو منهجي على التيار الداعم للثورة في نشاطه في الجولان، لكنها تعاقبه على تجاوزات وحماقات غيره، وتجنبا لتكرار هذه التجاوزات. وإذا كانت السلطة الدينية تظن أنها محصنة من تهجمات الشبيحة البعثية في الجولان فإنها إما تعيش حالة إنكار لحقيقة أنها بذاتها أصبحت ضحية لتشبيح البعثيين، أو الأسوأ من ذلك كونها غير قادرة أن تستشرف مستقبلا يبشر بأن هذه هي أول قطرة من غيث إذا نجح مشروع كم أفواه المعارضة، وأنها التالية بالدور حتى تبيع دينها وكرامتها فداءا للرئيس المعصوم، الذي سيفرض عليها أن تعتبره واحدها الأحد وفردها الصمد.

وكل ما سبق هو ليس إلا نقاشاً للبيان بناءا على منطق أهله. فبالنسبة للتيار الداعم لثورة الكرامة، يعتبر خيار الوقوف كمتفرج على ما يحدث في وطننا غير وارد جملة وتفصيلا، ولا حوار عليه. الحوار إذا هو على قواعد اللعب وليس على المشاركة في اللعبة. إن الوقوف مع شعبنا السوري هو خيار أخلاقي لا يمكن التخلي عنه إطلاقا، وهو لا يختلف بأي شكل كان عن المشاركة في الثورة العربية ضد العثمانيين، أو الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار، أو معارضة حكم العسكر في مرحلة الانقلابات، أو الانتفاضة ضد الضم والجنسية في مطلع الثمانينات. فالمشترك بين هذه جميعا هو رفض الظلم والتعدي على الكرامة الفردية والجمعية للناس والدفاع غير المهادن عن الإنسان والانسانية الكامنين فينا. مقاومتنا للإحتلال تنبع أصلا من تبنينا لهذه الأسس، والوطن الذي نريد العودة إليه ينبغي أن لا يكون مبنيا إلا عليها.

ومحليا، فإن التطورات الناجمة عن الوقوف مع أو ضد ثورة الكرامة أسهمت في تحطيم أساطير بنيناها عن مجتمع الجولان بأنه مبني على التعاضد والوحدة العضوية. فالأحداث الأخيرة أثبتت بما لا يقبل الدحض أن هذه الوحدة الهشة كانت قائمة على الصمت المؤدب عن تجاوزات البعثيين للمجتمع. ويبدو أننا اخترنا هذا الصمت المؤدب مخطئين بأن لا حاجة لمواجهة مشاكلنا الداخلية لأن هذا قد يهمش جهود الصمود في وجه الاحتلال. لكن، وبعد التطورات الأخيرة، أصبح من الواضح للكثيرين من داخل وخارج التيار الداعم للثورة بأن للمعركة في الجولان ثلاث جبهات: أولا، الدفاع عن أنفسنا أمام مد استبدادي جائر يريد أن يحكمنا عنوة في غياب سلطة قانون وطنية شرعية تحت الاحتلال، وثانيا، الصمود في وجه الاحتلال، وثالثا، الوقوف الى جانب شعبنا السوري الذبيح، وأن هذه الجبهات مترابطة عضويا والنجاح في أي منها هو نجاح فيها كلها. نحن لم نقاوم استبداد الاحتلال لنستبدله باستبداد الشبيحة بيننا، ولن نقبل بذلك مهما كان الثمن، لأن وحدة وطنية هشة كهذه لن تستطيع الصمود في وجه الاحتلال.

وحيث أن الأحداث الأخيرة أثبتت أن أزمتنا ليست أزمة "موالاة" و"معارضة" كما يحاول البعض تصويرها بسذاجة، وإنما أول التصدع وبداية الانهيار للوحدة الشكلية الهشة بيننا التي تعامينا عنها طوال سنين، فقد أصبح ملحا اليوم، أكثر من أي مرحلة مضت تحت الاحتلال، أن تعود الهيئة الدينية لممارسة دورها الأهم، وربما الوحيد الذي يتمتع بإجماع كل أطياف وفئات مجتمعنا عليه، وهو فرض قواعد التعامل بيننا على أسس التهذيب والسلمية والتعايش مع الآخر وإنزال العقوبة الملائمة بحق كل من ينتهك هذه القواعد.